2015-07-11

الباحث في الداخل ( الجزء الأول )

الجزء الأول: فطرة, حدس ... و الكثير من الأسئلة.

رجوعا بالذاكرة الى بدايات الوعي, هذا اول مشهد اتذكره:
طفل جالس على مسطبة فى فناء الحضانة امام منطقة الألعاب, يأكل تفاحة متفرجا على باقي اطفال فصلة يتزحلقون مرة تلو الأخرى ... لا اتذكر ماذا كان يراقب او بماذا كان يفكر, لكنى اتذكر ان التزحلق مرة واحدة كان كافى لأصابته بالملل...
واتذكر ايضا اول فتاة احبها فى نفس الفصل ... ندى, اتذكر شعرها البندقي الذى بالكاد يصل الى كتفها ... و لن انسى شعوري عند رؤيتها تبكي اول مرة ... اردت ان احتضنها لكنى لم افعل ... كانت تبكى لأن ممحاتها ضاعت ... و بينما ذهب اصدقائها من الأولاد و البنات لمواساتها او اعطائها ممحاتهم ... ذهبت انا لأبحث عن ما فقدته ... ووجتها تحت كرسي وهرعت لإعطائها لها اتوقف عن البكاء, وقد فعلت ... في الأغلب كانت اول او اخر مره يحالفني فيها الحظ مع من احب.....

حتى فى هذا السن الصغير, قبل حتى دخول المدرسة, ظهرت طبيعتي التمرديه, التشكيك فى كل شئ, ليس بداعي العند ولكن لصعوبة اقناع عقلي .... طبيعة ستجلب لي الكثير من المشاكل فيما بعد ... كنت و مازلت لا احب ان اتلقى الأوامر, ولا حتى ان اعمل بالنصائح مهما كانت ليونتها, ولعل ابرز الذكريات فى طفولتي على الأطلاق, عندما كنت و ابى عند الحلاق, وبدأت العب بنصل الحلاقة, عندها قال لي ابي بكل هدوء " دعها, لكي لا تجرح " ... لم انصت و اتذكر ان ابي حينها فعل شئ من النادر ان يفعله اي ولي امر ... تركني اعبث بها حتى جرحت اصبعي ... لم ابكى حينها, فلذة التجربة كانت الأقوي ...ثم نظر لي ابى نظرة تقول " لقد حذرتك ... ".
فقط حينها تعلمت ... و لم اعبث بالنصل مجددا...

موقف اخر مشابه:
فى احد ايام العيد, جلب ابى علبة من الفرقعات الصفراء الصغيرة ... وقال لي انه سيشعل الصاروخ ولكن على ان ارميه بسرعة لكي لا ينفجر فى يدي, ورميته فور اشعاله وكنت سعيد بالصوت المدوي ... ثم عدت الى وعي و تسألت ماذا سيحدث ان انفجر فى يدي ؟ ... اشعل ابى الصاروخ الثاني فابعدته عن جسدي لكنى لم اتركه, حتى انفجر فى راحة يدي ... مجددا لم ابكي 
حينها, ليس لأن التجربة لم تؤلم ... لكن لأنى اردت تحمل عواقب تجربتي.


كبر الطفل قليلا و دخل المدرسة الإبتدائية, لم يكن لدية اي " مواهب " فنية او رياضية او اجتماعية كباقي زملائه, بعضهم كان مهاري فى كرة القدم, بعضهم كانوا بارعين في الرسم وبعضهم كانوا الأكثر شعبية فى الفصل و محور اهتمام الصبيان و الفتيات.
اما هو فكان بارع في البحث عن التفاصيل الدقيقة ... تفاصيل كل شئ ...و كانت لدية رغبة غربية فى فهم كل شئ على حقيقته ... شخصيات من حوله, ماذا يغضبهم و ماذا يبهجهم, وما يخفونه تحت اقنعتهم, يستمتع بتوقع افعالهم او اقوالهم التالية و ينتشي سريا عندما تصيب توقعاته ... كانت لدية قدرة فريدة على فهم ما بين السطور, تعابير الوجه التي لا تدوم سوى لجزء من الثانية, النظرات و الهمسات .... نبرات الخداع, والأيمائات الفاضحة للكذب.

قدرة على الدخول في حالة تركيز حاد على ما يريد و تضليل لي شئ اخر مكنته من إصطياد ادق التفاصيل واسرعها اختفاءا, و جعلته اكثر وعيا بالنسبة لباقي الأطفال فى عمرة.
فى حين كان زملائه يمضون الفسحة كلها يتناقشون فى حلقات المصارعة الحرة, من الأقوى و من الأضعف, كان يكتفي بالصمت لأن حدسه كان يخبره ان الحلقات مجرد تمثيل استعراضى, و نتائج " المباريات " كانت محددة من قبل بدأها ....
و فى حين كانوا يظنون ان الأنثى تحمل بقبلة من زوجها او ب " بركة الله " ... كان يعلم العملية الحقيقية كلها ... الجانب الجنسي منها و العلمي.
وكان يعلم ان لا وجود لأسماك القرش عند خط الطوافات الحمراء فى البحر ... وان هذه الترهات هدفها منعه والأطفال من السباحة الى العمق.

بالرغم من نضوجه نسبيا ... كان عقلة مصدر للشقاء و الحيرة و الغضب, لم يكن يقدر ان يشبع شهوته لفهم كل شئ, ولا حتى ان يتجاهلها, فكيف يتجاهل عقله الذى لا ينكب عن البحث و التساؤل و النقد و التحليل ؟ و لم يقدر ان يهرب من اسئلته, فاجابات اهله و مدرسيه لم تكن منطقية و لم تقنعه كما اقنعت باقي الأطفال, هذا ان سئلوها...
كان دائما ما يسأل:
 " لماذا لا استمتع الا بمشاهدة الأفلام الوثائقية ؟
 فانا لا اجد ما اقوله فى حوار زملائي عن المسلسل الكرتونى.
لماذا انا الوحيد الذى لا يستمتع بفقرة الساحر فى اعيد الميلاد ؟
لماذا استمر فى مناقشة مدرسيني في محتوى دروس الدين و التاريخ و العلوم حتي ينعتونى بالمتحاذق و قليل الأدب و يستدعون ولى امري ؟
لماذا اسأل اسئلة عن وجود الله و من اين اتى و عن شكلة و مكانة ؟ ولماذا سأصاب بالجنون ان لم اكف عن التفكير فيها ؟
ولماذا يهرب منى الجميع و لا اجد من يجيب على كل هذه الأسئلة ؟
هل بي خطب ما ؟ كيف اطفئ عقلي لأرتاح ؟.... "

طاردت الكثير من
التساؤلات الطفل الصغير ليل نهار,فأصبح اكثر عزلة ووحدة, اصابه الإكتئاب فحاول الإبتعاد عن كل الأنشطة الإجتماعية وانهبط مستواه الدراسي تدريجيا, وبالتالي زاد احساسه بالذنب و كرهه لأفكاره, لم يقدر حتى ان ينام ليلا, حتى اكتشف الحل اخيرا...